هاتفته يومًا بعد مشهد أقلقنى يجمع الأميرة أشرقت، سليلة العائلة العلوية، قريبة الخديو إسماعيل، وحارسها حمزة الحلوانى، الشاب الذى ينتمى إلى أسرة بسيطة فى الفرما «بورسعيد»، وتضررت من ضياع أرضها فى حفر قناة السويس.
الاتصال كان مع الكاتب والمؤلف العظيم محفوظ عبدالرحمن، والمشهد كان فى مسلسله العظيم «بوابة الحلوانى»، الذى يتناول زمن الخديو إسماعيل بما فيه من شق قناة السويس، وحال الفن مع عبده الحامولى وألمظ، أما الأميرة أشرقت فى المسلسل فهى فى الأصل الفنانة الرائعة سمية الألفى، وحارسها «حمزة الحلوانى» هو الموهوب المبدع خالد النبوى.
قلقى كان على المصير الذى ستؤول إليه هذه العلاقة الغريبة، التى بدأت بأسئلة استعلائية توجهها الأميرة لحارسها أثناء قيامه بمهمته على قصرها، مثل: «أنت يا.. أنت اسمك إيه؟»، فيرد عليها بكبرياء: «حمزة الحلوانى»، ومع كل حلقة جديدة وأسئلة جديدة كانت العلاقة تتصاعد بين الاثنين، فيتفاعل «استعلاء الأميرة» مع «كبرياء الفلاح» كمعادلات الكيمياء، ومع التفاعل يتجدد سؤال المشاهدين: «هى أشرقت هتحب حمزة ؟».
كنت واحدًا من هؤلاء الذين شغلهم السؤال، لكن ولأننى من أهل مهنة الصحافة، رغم أن عمرى المهنى وقتها كان قصيرًا، وباعتبارى من المشغولين بقضايا الفكر والتاريخ والسياسة، فمن الطبيعى أن يكون لدى الحد الأدنى من المعرفة بأننا أمام عمل درامى أولًا وأخيرًا، وأن انشغالى بمصير «حمزة» و«أشرقت» يجب أن تكون له مسارات أخرى غير التى يهتم بها المشاهد العادى، لكننى ضبطت نفسى على نفس حال الآخرين فى انشغالهم، وأصبح سؤالى: «هما هيحبوا بعض ولا لأ ؟».
ولأننى تعرفت على الأستاذ محفوظ قبل إذاعة المسلسل بفترة قليلة، وعاملنى بأبوة ومحبة، توجهت إليه بقلقى: «يا أستاذ، اهتمام أشرقت بحمزة حلو قوى، ولو حبته هيبقى نصر كبير للغلابة، بس النهاردة قلقت من احتمال إنها متحبوش، هى هتحبه ولا لأ؟».
يرد ضاحكًا هاربًا، وأغرق معه فى الاستمتاع بالاستماع إليه وهو يروى حكايات مدهشة من التاريخ، حتى كان حظى بالذهاب إليه أكثر من مرة وهو مازال مقيمًا فى المهندسين، وكان وقتها مشغولًا بكتابة مسلسل «أم كلثوم» لأرى كنوز التاريخ تحيط به، فى كتب نادرة بمكتبته، وأعرفه محترفا فى قراءتها، وعبقريًا فى اختيار الحوادث منها، لينتهى بها إلى نص درامى لا يستطيع أحد غيره أن يكتبه. محفوظ عبدالرحمن الذى يرقد الآن مريضًا هو أهم رواد كتابة الدراما التليفزيونية العربية، وهو القادر على أن يجعل المشاهد فى حال غير التى كان عليها قبل أن يشاهد أعماله الدرامية، فيحرضه على طرح الأسئلة، والرغبة فى المعرفة، لأنه يضع يده فى قلب التاريخ، ويأتى منه بحكايات عن ماضينا الموجع والمشرق، ليضعنا على حقيقة الحاضر الذى نحن فيه، والمستقبل الذى يجب أن نذهب إليه، فعل هذا فى أعماله الرائعة، ومنها: «الكتابة على لحم يحترق، ليلة سقوط غرناطة، عنترة، سليمان الحلبى، الزير سالم، بوابة الحلوانى «جزءان»، أم كلثوم، حليم، أهل الهوى، ناصر 56»، وغيرها من الأعمال الدرامية.
كتب محفوظ عبدالرحمن أعماله الدرامية بصدق يؤدى إلى تغيير فى الوجدان والمعرفة، كتب عنى وعنك، وعن ناسى وناسك، وعن تاريخنا الذى يسرى فى عروقنا، حتى لو أنكره البعض، وقاموا بتشويهه، كتبه محفوظ ليأخذنا إليه بمهارته، ونقف فى محطاته الزمنية المختلفة، كتبه ليقول لنا منه: أجدادك كانوا هناك ودفعوا ثمنًا غاليًا لتكون أنت هنا فتذكرهم دائما».
ادعوا لأستاذنا الكبير بالشفاء العاجل، حتى يواصل دوره الذى يذكرنا، فيعلمنا وينير طريقنا.